يشهد العالم منذ بداية العام 2025 طفرة غير مسبوقة في أسعار الذهب، حيث تجاوز سعر الأونصة حاجز الأربعة آلاف دولار للمرة الأولى في التاريخ، مدفوعة بالتوترات الجيوسياسية المتصاعدة، وتراجع الثقة بالعملات الورقية، وزيادة الطلب من البنوك المركزية على المعدن الأصفر كملاذ آمن. وفي هذا السياق، يجد لبنان نفسه أمام فرصة نادرة لتحويل ثروته الذهبية من أصل راكد في خزائن مصرف لبنان إلى رافعة للثقة والاقتصاد، بشرط أن تُدار هذه الثروة بحذر وإصلاح بعيد عن الارتجال.
لبنان واحتياطي الذهب:
يمتلك لبنان حوالي 286.8 طنًا من الذهب، مما يجعله ثاني أكبر دولة عربية من حيث احتياطي الذهب، ضمن أكبر عشرين دولة عالميًا بحسب بيانات مجلس الذهب العالمي. لكن هذه الثروة، التي تقدر قيمتها الحالية بأكثر من 20 مليار دولار، كانت مجمدة لأكثر من ثلاثة عقود بسبب القانون رقم 42/1986 الذي يمنع بيع أو رهن الذهب إلا بقرار من مجلس النواب. هذا المنع الذي حال دون هدر الذهب في فترة الانهيار المالي، جعله في المقابل ثروة “ممنوعة اللمس”، رغم أنه اليوم يشكل ركيزة يمكن للبنان أن يستفيد منها في تعزيز موقعه المالي.
فرص لبنان في التعامل مع ارتفاع أسعار الذهب:
يمنح ارتفاع أسعار الذهب لبنان قدرة تفاوضية أكبر مع المؤسسات المالية الدولية، حيث يشكل احتياطي الذهب ضمانة غير مباشرة لاستقرار لبنان المالي والنقدي. هذه الزيادة في القيمة تمنح لبنان فرصًا أكبر في المفاوضات المستقبلية حول إعادة الهيكلة أو التمويل. وعلى الرغم من أن هذه المكاسب تظل “دفترية”، فإنها تحمل وزنًا رمزيًا ومعنويًا كبيرًا، إذا رافقها إدارة شفافة للأصول وعرض دقيق للبيانات المالية.
الاستفادة الذكية من الذهب:
بدلاً من بيع الذهب أو رهنه، يمكن للبنان توظيفه عبر أدوات قانونية وآمنة. على سبيل المثال، يمكن إنشاء صندوق سيادي خاص بالذهب، يخضع للرقابة من مجلس النواب وديوان المحاسبة. يتم استثمار عوائد هذا الصندوق في أدوات مالية منخفضة المخاطر، وتخصيص أرباحه لتمويل مشاريع تنموية، مثل دعم التعليم الرسمي، تمويل برامج الدمج الجامعي للأشخاص ذوي الإعاقة، وتطوير المستشفيات العامة. بهذه الطريقة، يتحول الذهب من “رصيد نائم” إلى مصدر تمويل مستدام دون المساس بالذهب نفسه.
قطاع صياغة الذهب والمجوهرات:
يمكن للبنان أيضًا تفعيل قطاع صياغة الذهب والمجوهرات الذي طالما تميز بالحرفية اللبنانية. بإعادة تنظيم هذا القطاع بشكل مهني، يمكن للبنان تحويله إلى محرّك تصديري حيوي. كما يمكن إنشاء منطقة حرة للمجوهرات والمعادن الثمينة، وإنشاء مختبر وطني للوسم والاعتماد وفق معايير دولية، ما سيساهم في إعادة الثقة بالمنتج اللبناني وفتح أبواب التصدير إلى الخليج وأوروبا. بالإضافة إلى ذلك، يمكن منح حوافز ضريبية للمشاغل الصغيرة والمتوسطة لتعزيز التشغيل المحلي ورفع القيمة المضافة.
التوفير الشعبي عبر الذهب:
على المستوى الاجتماعي، يشكّل الذهب وسيلة ادخار آمنة لدى اللبنانيين لعقود، ويمكن تحويل هذا الميل الشعبي إلى مسار منظم من خلال حسابات ادخار بالذهب، تُشرف عليها المصارف وفق ضوابط مصرف لبنان. هذه الحسابات ستساعد على تقنين المضاربات في السوق السوداء، وتحويل الادخار الفردي إلى مسار اقتصادي منضبط.
ورقة قوة للبنان في المفاوضات المالية:
على الصعيد السياسي والمالي، يمنح احتياطي الذهب لبنان ورقة قوة في المفاوضات المالية المقبلة. إذ يمتلك بلد صغير بأزمة نقدية احتياطيًا ضخمًا لم يُمسّ رغم الانهيار، ما يمنحه مزيدًا من الثقة الدولية. في حال إرفاق ذلك بإصلاحات مالية وقضائية جدية، يمكن أن يساعد الذهب على خفض كلفة الاقتراض مستقبلًا.
المخاطر المرتبطة بفرصة الذهب:
رغم هذه الفرصة التاريخية، تظل هناك مخاطر. فأسعار الذهب تخضع لتقلبات الأسواق العالمية، وأي استقرار اقتصادي أو سياسي دولي قد يؤدي إلى تراجع حاد في قيمته. بالإضافة إلى ذلك، فإن فتح الباب أمام أدوات استثمارية معقدة قد يعرض البلاد لمخاطر قانونية ومالية جسيمة. لذلك، يجب أن يتم أي تعديل أو استثمار في إطار تشريعي واضح يحدد آليات الرقابة ويمنع أي تصرف مباشر أو غير مباشر بالذهب من دون موافقة البرلمان.
أهمية الشفافية:
الأهم في هذه المرحلة هو تبني سياسة شفافة ومستمرة في التواصل مع الرأي العام، من خلال نشر تقارير رسمية حول حجم الذهب ومكان تخزينه وحركته. فالشائعات التي أحاطت بهذا الملف في السنوات الماضية قد أضعفت الثقة العامة وأتاحت المجال للتوظيف السياسي. الشفافية وحدها هي التي ستعيد الثقة وتحمي هذه الثروة الوطنية.
الخلاصة:
الذهب ليس مجرد رقم اقتصادي، بل هو فرصة نادرة للبنان لإعادة بناء الثقة بالنفس. إذا أحسن لبنان إدارة هذه الثروة، يمكن أن يتحول الذهب إلى حجر زاوية في مسار التعافي المالي، لا من خلال بيعه أو رهنه، بل عبر تحويله إلى أداة إصلاح واستقرار. لكن إذا استمر التعامل مع الذهب كملف سياسي مؤجل، فسيبقى “الذهب الصامت” شاهدًا على بلدٍ امتلك الثروة وفقد القدرة على إدارتها.
المصدر: جو رحال – نداء الوطن
سكوبات عالمية إقتصادية – EconomyScopes إجعل موقعنا خيارك ومصدرك الأنسب للأخبار الإقتصادية المحلية والعربية والعالمية على أنواعها بالإضافة الى نشر مجموعة لا بأس بها من فرص العمل في لبنان والشرق الأوسط والعالم