تراكمت على ظهر الودائع: 18 مليار دولار طارت من رساميل المصارف

ماذا تبقّى من القطاع المصرفي بعد الأزمة؟ كل شيء كان يمثّله القطاع انتهى. فالسردية التي كانت سائدة عن قطاع حقّق نمواً هائلاً بعد الحرب الأهلية انمحت بعدما تبخّرت 86% من رساميل المصارف التي كانت تبلغ قبل الانهيار 20.7 مليار دولار وباتت اليوم تبلغ 2.88 مليار دولار. خسارة ضخمة كهذه، لم يكن سببها سوء الإدارة فحسب، بل جشع المصرفيين ورغبتهم في الامتناع عن تخصيص أي ضمانات تأمينية على رأس المال لأنهم كانوا يثقون «ثقة عمياء» بما يقوله رياض سلامة. هذه الثقة لم تنتج من مجرّد «سوء إدارة»، بل أتت من فساد منظّم كان يمدّ المصارف بالأرباح الدائمة التي تجاوزت قبل الأزمة 2 مليار دولار في السنة.

أصدر «بلوم إنفست بنك» في نشراته الدورية، تقريراً يتضمّن تقديراً لمكوّنات رأس المال بحسب العملة. كان الهدف من التقدير التمييز بين ما لدى المصارف من رساميل مسجّلة بالليرة اللبنانية، ورساميل بالعملة الأجنبية. خلص التقرير، استناداً إلى التطورات التي طرأت على التغيّر في سعر الصرف وفي حجم الرساميل، إلى أن الليرة كانت تُشكّل نحو 15% من إجمالي رساميل المصارف في شهر شباط 2023، أي بعد تعديل سعر الصرف الرسمي إلى 15 ألف ليرة للدولار الواحد، ثم انخفضت نسبتها إلى 9% في أيار الماضي بعد تعديل سعر الصرف الرسمي إلى نحو 90 ألف ليرة للدولار الواحد. عملياً، ما ينطبق من توزيع للرساميل بين الليرة والدولار، على فترة ما بعد شباط 2023، هو أقرب ما يكون إلى الفترة التي سبقتها لأنها الفترة الفاصلة لتعديل سعر الصرف من 1500 ليرة لكل دولار إلى 15 ألف ليرة. في شباط كانت الرساميل بالدولار تساوي 5.6 أضعاف ما هي عليه بالليرة، وفي كانون الثاني 2024، أي مع مزيد من تدهور سعر الليرة، باتت حصّة الدولار تساوي 10 أضعاف الليرة. بمعنى أوضح، كلما تدهور سعر الصرف، تقلّصت حصّة الليرة من الرساميل بعد تحويلها إلى الدولار.

ورغم أن الخسارة الإجمالية في الرساميل والبالغة 17.8 مليار دولار، مصدرها الأساسي هو التدهور في قيمة حصّة الليرة، إلا أن هناك أسباباً أخرى لهذه الخسائر، أهمّها الخسائر الناتجة عن توظيفات المصارف، والتي تشمل اليوروبوندز والقروض للقطاع الخاص بالإضافة إلى التوظيفات في مصرف لبنان. وقد اتخذت المصارف مؤونات على الخسائر في توظيفاتها، نعرف منها بشكل أكيد ما أجبرها مصرف لبنان عليه وهو اتخاذ 45% على اليوروبوندز. المؤونات هي حساب يندرج تحت عنوان رأس المال وهو حساب سلبي، أي إنه يُنقص من صافي رأس المال، وعندما تؤخذ مؤونات لتُغطّي خسائر معينة فإنها تُنقص من رساميل المصارف.

في المجمل، خسرت المصارف نحو 24 سنة من النمو في زيادة الرساميل، حيث عادت إلى المستوى الذي كانت عليه في صيف سنة 2000. يدلّ هذا الأمر على الواقع السيّئ الذي تعيشه، حتى لو كانت تحاول أن تظهر أنها قد تعافت، فالوقائع والأرقام تحكي قصّة أخرى.

كما خسر القطاع دوره كمموّل للاقتصاد وكملجأ لأموال الفاعلين الاقتصاديين في البلد، إذ توقّف عن الإقراض وخسر ثقة المودعين المحليين والخارجيين وبالتالي لم يعد يجذب ودائع جديدة.

الخسارة الكبيرة في رأس مال المصارف تُعبّر فعلياً عن وضع القطاع. فصحيح أن بعض المصارف عادت تنشر بيانات مالية تشير إلى تحقيقها أرباحاً، ولو هامشية، إلا أن هذه الأرباح لا تُعبّر عن الواقع. فرأس مال أي شركة هو الذي يُعبّر عن حجمها وأدائها في السوق. فإذا توسّع رأس مال الشركة هذا يعني أن وضع الشركة المالي جيّد، أما إذا تلقّى رأس مال الشركة خسارات كبيرة فهذا يشير إلى وضعها السيّئ. وهذا السيناريو الأخير هو ما تعيشه المصارف اليوم.

تحاول المصارف الترويج بأن سبب هذه الخسائر، هو انفجار «أزمة نظامية». المقصود بهذه العبارة، أن النظام انفجر من دون علمها ولا مساهمتها وأدّى هذا الانفجار إلى تطيير الودائع. ففي مسألة تطيير الودائع لا خلاف بشأنها، إذ إن المصارف أودعتها لدى مصرف لبنان، وهو أعاد توزيع هذه الأموال بالعملات الأجنبية بأشكال وطرق وأهداف مختلفة، منها إقراض الدولة ومنها التدخّل دفاعاً عن سعر الصرف ومنها تمويل هروب الاستثمارات… الأزمة النظامية تعفي المصارف من أي مسؤولية تجاه الودائع، وهي تتذرّع بأن رساميلها طارت بسبب هذه الأزمة النظامية، وأن تكبّدها مثل هذه الخسارة هو أمر هائل وكافٍ ليكون نصيبها من الأعباء. تكاد المصارف تقدّم هذا الأمر باعتباره تضحية منها، بينما الواقع يشير إلى أن المصارف كانت مدركة لكل ما كان يحصل في بنية هذا النموذج، وهي تلقّت تحذيرات متكرّرة من صندوق النقد الدولي بوجوب الامتناع عن توظيف أموالها لدى مصرف لبنان لأن هذا الأخير يوظّفها بدوره لدى الحكومة ويستعملها للدفاع عن ثبات واستقرار سعر الصرف… رغم التحذيرات، ورغم أن قواعد توزيع المخاطر تفرض على المصارف توزيع توظيفاتها، إلا أنها لم تقم بذلك، بل أصرّت على توظيف الأموال لدى مصرف لبنان بل منحته ثقة مفرطة باستمرار لأنه كان يقدّم لها أرباحاً مضمونة باستمرار.

المصارف خسرت 24 سنة من نمو الرساميل بسبب «ثقة عمياء» بالحاكم رياض سلامة
لم يصدف أن حقّقت المصارف خسائر، حتى تلك المصارف التي كانت «تقع» بسبب إفراط إدارتها في تبذير الأموال، كان مصرف لبنان ينقذها من خلال «هندسات» مشبوهة، إذ كان يقرضها بفائدة متدنية جداً مقابل أن توظّف لديه الأموال بفائدة أعلى بنحو 6 نقاط أو 7 نقاط مئوية. كانت الأرباح تتدفق إلى بنية القطاع كشتاء لا ينتهي، وكانت المصارف توزّع بعض الأرباح وتضخّ الباقي في رساميلها. والرساميل النقدية ليست كل نتاج هذا النظام، بل كانت بأشكال عقارية أيضاً. أيضاً منحها مصرف لبنان الإذن، بتصدير هذه الأرباح على شكل رساميل جديدة إلى الخارج بالتزامن مع بروباغندا تروّج لأهمية «الانتشار المصرفي». فقد أسّست المصارف فروعاً لها أو مصارف شقيقة أو تابعة في عدد كبير من البلدان، وكل هذه الأموال كانت تُصدّر إلى الخارج بإذن من مصرف لبنان، وهي الآن أهم أملاك المصارف. فتحت المصارف فروعاً في أوروبا وتركيا والبلدان العربية وقبرص وأميركا وأستراليا… هذا الانتشار هو أحد مصادر تهريب الأرباح المرسملة.

لذا، إن الكلام عن كون هذه الخسارة تكفي، هو كلام شائن، فالمصارف شريكة في تأسيس هذا النظام، ومن رفض هذه الشراكة انفصل وهرب من لبنان بين نهاية التسعينيات ومطلع الألفية. وذوبان هذه الرساميل، هو الجزء الذي خسرته المصارف من أموال حقّقتها بطرق فاسدة، وهو جزء بسيط مما هرّبته إلى الخارج سواء عبر «الانتشار» أو عبر التحويل الشرعي بعد الانهيار. هذا الثمن لا يبدو كافياً وموازياً لحالة سوء الإدارة وانعدام توزيع المخاطر.

المصدر: محمد وهبة – ماهر سلامة – الأخبار

عن Mohamad Jamous

شاهد أيضاً

أسعار المحروقات في لبنان، سعر البنزين اليوم في لبنان، سعر الديزل اليوم في لبنان، سعر الغاز اليوم في لبنان، سعر النفط في لبنان، أسعار الوقود في لبنان، التحديث اليومي لأسعار المحروقات في لبنان، سعر الوقود في لبنان اليوم، سعر البنزين في السوق السوداء في لبنان، سعر المحروقات في لبنان لحظة بلحظة، سعر لتر البنزين في لبنان، سعر لتر الديزل في لبنان، توقعات أسعار الوقود في لبنان، تحليل أسعار المحروقات في لبنان، سعر الغاز المسال في لبنان، سعر الكيروسين في لبنان، استقرار أسعار المحروقات في لبنان، أثر ارتفاع أسعار المحروقات في لبنان، تقلبات أسعار المحروقات في لبنان، أسعار الوقود في محطات البنزين في لبنان، أسعار المحروقات في السوق اللبنانية، شراء الوقود في لبنان، تأثير أسعار الوقود على الحياة اليومية في لبنان، أخبار أسعار المحروقات في لبنان، أسعار الوقود في السوق اللبنانية اليوم، fuel prices in Lebanon، gasoline price today in Lebanon، diesel price today in Lebanon، gas price today in Lebanon، oil price in Lebanon، fuel cost in Lebanon، daily fuel price update in Lebanon، Lebanon fuel prices today، gasoline price in black market Lebanon، real-time fuel prices in Lebanon، price of gasoline per liter in Lebanon، price of diesel per liter in Lebanon، fuel price forecasts in Lebanon، fuel price analysis in Lebanon، LPG price in Lebanon، kerosene price in Lebanon، fuel price stability in Lebanon، impact of rising fuel prices in Lebanon، fuel price fluctuations in Lebanon، fuel prices at gas stations in Lebanon، fuel prices in the Lebanese market، buying fuel in Lebanon، impact of fuel prices on daily life in Lebanon، fuel price news in Lebanon، Lebanon fuel market prices today،أسعار المحروقات اليوم في لبنان, Fuel prices in Lebanon, سعر البنزين في لبنان, Gasoline price in Lebanon, سعر المازوت في لبنان, Diesel price in Lebanon, جدول أسعار المحروقات في لبنان, Lebanon fuel price update, سعر الغاز في لبنان, Gas price today in Lebanon, محطات الوقود في لبنان, Gas stations in Lebanon, توقعات أسعار المحروقات في لبنان, Lebanon fuel crisis, تأثير سعر الدولار على المحروقات في لبنان, Impact of dollar on fuel prices in Lebanon, أزمة الوقود في لبنان, Lebanon energy crisis, كلفة النقل في لبنان بسبب ارتفاع المحروقات, Rising fuel costs in Lebanon, كيفية توفير الوقود في لبنان, Saving fuel in Lebanon, السوق السوداء للمحروقات في لبنان, Lebanon black market fuel, استيراد المحروقات في لبنان, Fuel import in Lebanon, دعم الحكومة لأسعار المحروقات في لبنان, Fuel subsidies in Lebanon, ارتفاع أسعار الطاقة في لبنان, Oil price Lebanon, تأثير أزمة الطاقة على الاقتصاد اللبناني, Impact of energy crisis on Lebanese economy, كيفية ترشيد استهلاك المحروقات في لبنان, How to save fuel in Lebanon, أسعار الطاقة الشمسية في لبنان, Solar energy prices in Lebanon, محطات تعبئة الغاز في لبنان, Gas filling stations in Lebanon, توزيع المحروقات في لبنان, Fuel distribution in Lebanon, مواعيد صدور جدول أسعار المحروقات في لبنان, Fuel price schedule release dates in Lebanon, تأثير أزمة المحروقات على النقل العام في لبنان, Impact of fuel crisis on public transport in Lebanon, أسعار الوقود في بيروت, Fuel prices in Beirut, أزمة الكهرباء في لبنان, Electricity crisis in Lebanon, تأثير ارتفاع أسعار المحروقات على حياة اللبنانيين, Impact of rising fuel prices on Lebanese citizens, شحن الوقود إلى لبنان, Fuel shipment to Lebanon, استهلاك البنزين في لبنان, Gasoline consumption in Lebanon, مصادر استيراد المحروقات في لبنان, Sources of fuel imports in Lebanon, تسعير المحروقات في لبنان, Fuel pricing in Lebanon, أسعار الوقود المدعوم في لبنان, Subsidized fuel prices in Lebanon, خطة الحكومة لدعم المحروقات في لبنان, Government plan for fuel subsidies in Lebanon, طوابير المحطات في لبنان, Gas station queues in Lebanon, نفاد الوقود في لبنان, Fuel shortages in Lebanon, الاعتماد على المولدات في لبنان بسبب نقص المحروقات, Dependence on generators in Lebanon due to fuel shortages

ارتفاع أسعار المحروقات في لبنان: جدول جديد يظهر زيادة ملحوظة في أسعار البنزين والمازوت!

ارتفاع أسعار المحروقات في لبنان: جدول جديد يظهر زيادة ملحوظة في أسعار البنزين والمازوت! شهدت …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *